فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{أَفَمَن يَخْلُقُ} ما ذكر من المخلوقات البديعة أو يخلق كل شيء يريده {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} شيئًا ما جليلًا أو حقيرًا، وهو تبكيت للكفرة وإبطال لإشراكهم وعبادتهم غيره تعالى شأنه من الأصنام بإنكار ما يستلزمه ذلك من المشابهة بينه سبحانه وبينه بعد تعداد ما يقتضي ذلك اقتضاء ظاهرًا، وتعقيب الهمزة بالفاء لتوجيه الإنكار إلى ترتب توهم المشابهة المذكورة على ما فعل سبحانه من الأمور العظيمة الظاهرة الاختصاص به تعالى شأنه المعلومة كذلك فيما بينهم حسبما يؤذن به غير آية؛ والاقتصار على ذكر الخلق من بين ما تقدم لكونه أهظمه وأظهره واستتباعه إيته أو لكون كل من ذلك خلقًا مخصوصًا أي أبعد ظهور اختصاص سبحانه بمبدئية هذه الشؤون الواضحة الدالة على وحدانيته تعالى وتفرد بالألوهية واستحقاق العبادة يتصور المشابهة بينه وبين ما هو بمعزل عن ذلك بالمرة كما هو قضية إشراككم، وكان حق الكلام بحسب الظاهر في بادىء النظر أفمن لا يخلق كمن يخلق، لكن قيل: حيث كان التشبيه نسبة تقوم بالمنتسبين اختير ما عليه النظم الكريم مراعاة لحق سبق الملكة على العدم وتفاديًا عن توسيط عدمها بينها وبين جزئياتها المفصلة قبلها وتنبيهًا على كمال قبح ما فعلوه من حيث أن ذلك ليس مجرد رفع أصنامهم عن محلها بل هوحط لمنزلة الربوبية إلى مرتبة الجماد ولا ريب أنه أقبح من الأول، والمراد بمن لا يخلق كل ما هذا شأنه من ذوي العلم كالملائكة وعيسى عليهم السلام وغيرهم كالأصنام، وأتى {بِمَنِ} تغليبًا لذوي العلم على غيرهم مع ما فيه من المشاكلة أو ذوو العلم خاصة ويعرف منه حال غيرهم بدلالة النص، فإن من يخلق حيث لم يكن كمن لا يخلق وهو من جملة ذوي العلم فما ظنك بالجماد، وقيل: المراد به الأصنام خاصة، والتعبير {بِمَنِ} إما للمشاكلة أو بناء على ماعند عبدتهما، والأولى ما تقدم، ودخول الأصنام في حكم عدم المشابهة إما بطريق الاندراج أو بطريق الانفهام بدلالة النص على الطريق البرهاني قاله بعض المحققين.
واستدل بالآية على بطلان مذهب المعتزلة في زعمهم أن العباد خالقون لأفعالهم.
وقال الشهاب بعد أن قرر تقدير المفعول عامًا على طرز ما ذكرنا: وجوز أن يكون العموم فيه مأخوذًا من تنزيل الفعل منزلة اللازم أنه علم من هذا عدم توجه الاحتجاج بها على المعتزلة في إبطال قولهم بخلق العباد أفعالهم كما وقع في كتب الكلام لأن السلب الكلي لا ينافي الإيجاب الجزئي اه حسبما وجدناه في النسخ التي بأيدينا ولعلها سقيمة وإلا فلا أظن ذلك إلا كبوة جواد وهو ظاهر {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي ألا تلاحظون فلا تتذكرون ذلك فإنه لجلائه لا يحتاج إلى شيء سوى التذكر وهو مراجعة ما سبق تصوره وذهل عنه، وقدر بعضهم المفعول عدم المساواة، وذكر أنه لعدم سبقه حتى يتصور فيه حقيقة التذكر بأن يتصور ويذهل عنه جعل التذكر استعارة تصريحية للعلم به، وقيل: الاستعارة مكنية في المفعول المقدر وإثبات التذكر تخييل فتذكر.
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا}.
تذكير إجمالي لنعمه تعالى بعد تعداد طائفة منها، وفصل ما بينهما بقوله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} [النحل: 17]. كما قيل للمبادرة إلى إلزام الحجة والقام الحجر إثر تفصيل ما فصل من الأفاعيل التي هي أدلة التوحيد، ودلالتها عليه وإن لم تكن مقصورة على حيثية الخلق ضرورة ظهور دلالتها عليه من حيثية الأنعام أيضًا لكنها حيث كانت من مستتبعات الحيثية الأولى استغنى عن التصريح بها ثم بين حالها بطريق الإجمالي أي إن تعدوا نعمه تعالى الفائضة عليكم مما ذكر ومما يذكر لا تطيقوا حصرها وضبط عددها فضلًا عن القيام بشكرها، وقد تقدم الكلام في تحقيق ذلك حسبما من الله تعالى به {إِنَّ الله لَغَفُورٌ} حيث يستر ما فرط منكم من كفرانها والإخلال بالقيام بحقوقها ولا يعاجلكم بالعقوبة على ذلك {رَّحِيمٌ} حيث يفيضها عليكم مع استحقاقكم للقطع والحرمان بما تأتون وما تذرون من أصناف الكفر والعصيان التي من جملتها المساواة بين الخالق وغيره، وكل من ذينك الستر والإفاضة نعمة وأيما نعمة، فالجملة تعليل للحكم بعدم الإحصاء، وتقديم المغفرة على الرحمة لتقدم التخلية على التحلية. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)}.
ذكر جل وعلا في هاتين الآيتين اربع نعم من نعمه على خلقه، مبينًا لهم عظيم منته عليهم بها:
الأولى- إلقاؤه الجبال في الأرض لتثبت ولا تتحرك، وكرر الامتنان بهذه النعمة في القرآن كقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَادًا والجبال أَوْتَادًا} [النبأ: 6-7]، وقوله: {وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ} [الأنبياء: 31]. الآية، وقوله: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} [المرسلات: 27]، وقوله جل وعلا: {خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [لقمان: 10]. الآية، وقوله: {والجبال أَرْسَاهَا} [النازعات: 32]، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًا.
ومعنى تميد: تميل وتضطرب.
وفي معنى قوله: {أّن} وجهان معورفان للعلماء: أحدهما- كراهة أن تميد بكم. زالثاني: أن المعنى: لئلا تميد بكم، وهما متقاربان.
الثانية- إجواؤه الأنهار في الأرض المذكور هنا في قوله: {وَأَنْهَارًا} وكرر تعالى في القرآن الامتنا بتفجيره الماء في الأرض لخقه: كقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر} [إبراهيم: 32-33]. الآية، وقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ الماء الذي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} [الواقعة: 68-70]، وقوله: {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العيون لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} [يس: 34-35]. الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
الثالثة- جعله في الأرض سبلًا يسلكها الناس، ويسيرون فيها من قطر إلى قطر طلب حاجاتهم المذكور هنا في قوله: {وَسُبُلًا} وهو جمع سبيل بمعنى الطريق، وكرر الامتنان بذلك في القرآن. كقوله: {وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء: 31]، وقوله: {والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطًا لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح: 19-20]، وقوله: {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} [طه: 52-53]، وقوله: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولًا فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك: 15]. الآية، وقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف: 9-10]، إلى غير ذلك من الآيات.
الرابعة- جعله العلامات لبني آدم. ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر المذكور هنا في قوله: {وَعَلامَاتٍ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ}، وقد ذك الامتنان بنحو ذلك في القرآن في قوله: {وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر} [الأنعام: 97]. الآية.
قوله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} الآية.
تقدم بيان مثل هذه الآية في موضعين.
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن بني آدم لا يقدرون على إحصاء نعم الله لكثرتها عليهم، وأتبع ذلك بقوله: {إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} فدل ذلك على تقصير بني آدم في شكر تلك النعم، وأن الله يغفر لمن تاب منهم، ويغفر لمن شاء أن يغفر له ذلك التقصير في شكر النعم، وبين هذا الفهوم المشار إليه هنا بقوله: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
وبين في موضع آخر ك أن كل النعم على بني آدم منه جل وعلا، وذلك في قوله: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} [النحل: 53]. الآية.
وفي هذه الآية الكريمة دليل على أنا لمفرد إذا كان اسم جنس وأضيف إلى معرفة أنه يعم كما تقرر في الأصول. لأن {نعمة الله} مفرد أضيف إلى معرفة فعم النعم، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود عاطفًا على صيغ العموم:
أو بإضافة إلى معرف ** إذا تحقق الخصوص قد نفي

اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)}.
انتقال إلى الاستدلال والامتنان بما على سطح الأرض من المخلوقات العظيمة التي في وجودها لطف بالإنسان.
وهذه المخلوقات لما كانت مجعولة كالتكملة للأرض وموضوعة على ظاهر سطحها عبّر عن خلقها ووضعها بالإلقاء الذي هو رمي شيء على الأرض.
ولعلّ خلقها كان متأخرًا عن خلق الأرض، إذ لعلّ الجبال انبثقت باضطرابات أرضيّة كالزلزال العظيم ثم حدثت الأنهار بتهاطل الأمطار.
وأما السبل والعلامات فتأخّر وجودها ظاهر، فصار خلق هذه الأربعة شبيهًا بإلقاء شيء في شيء بعد تمامه.
ولعل أصل تكوين الجبال كان من شظايا رمت بها الكواكب فصادفت سطح الأرض، كما أن الأمطار تهاطلت فكوّنت الأنهار؛ فيكون تشبيه حصول هذين بالإلقاء بيّنًا.
وإطلاقه على وضع السبل والعلامات تغليب.
ومن إطلاق الإلقاء على الإعطاء ونحوه قوله تعالى: {ءألقي الذكر عليه من بيننا} [سورة القمر: 25].
و{رواسي} جمع راس.
وهو وصف من الرسْو بفتح الراء وسكون السين.
ويقال بضم الراء والسين مشددة وتشديد الواو.
وهو الثبات والتمكن في المكان، قال تعالى: {وقدور راسيات} [سورة سبأ: 13].
ويطلق على الجبل راس بمنزلة الوصف الغالب.
وجمعه على زنة فواعل على خلاف القياس.
وهو من النوادر مثل عَواذل وفوارس.
وتقدم بعض الكلام عليه في أول الرعد.
وقوله تعالى: {أن تميد بكم} تعليل لإلقاء الرواسي في الأرض.
والمَيْد: الاضطراب.
وضمير {تميد} عائد إلى {الأرض} بقرينة قرنه بقوله تعالى: {بكم}، لأن الميد إذا عُدّي بالباء علم أن المجرور بالباء هو الشيء المستقرّ في الظرف المَائد، والاضطراب يعطّل مصالح الناس ويلحق بهم آلامًا.
ولما كان المقام مقام امتنان علم أن المعلل به هو انتفاء الميد لا وقوعُه.
فالكلام جار على حذففٍ تقتضيه القرينة، ومثله كثير في القرآن وكلام العرب، قال عمرو بن كلثوم:
فعجّلنا القِرى أن تشتمونا

أراد أن لا تشتمونا.
فالعلّة هِي انتفاء الشتم لا وقوعه.
ونحاة الكوفة يخرجون أمثال ذلك على حذف حرف النّفي بعد {أنْ}.
والتقدير: لأن لا تميد بكم ولئلا تشتمونا، وهو الظاهر.
ونحاة البصرة يخرجون مثله على حذف مضاف بين الفعل المعلل و{أنْ}.
تقديره: كراهيّة أن تميد بكم.
وهذا المعنى الذي أشارت إليه الآية معنى غامض.
ولعلّ الله جعَل نتوء الجبال على سطح الأرض معدّلًا لكرويتها بحيث لا تكون بحدّ من الملاسة يخفّف حركتها في الفضاء تخفيفًا يوجب شدّة اضطرابها.
ونعمة الأنهار عظيمة، فإن منها شرابهم وسقي حرثهم، وفيها تجري سفنهم لأسفارهم.
ولهذه المنّة الأخيرة عطف عليها {وسبلًا} جمع سبيل.
وهو الطريق الذي يسافر فيه برًا.
وجملة {لعلكم تهتدون} معترضة، أي رجاء اهتدائكم.
وهو كلام موجه يصلح للاهتداء إلى المقاصد في الأسفار من رسم الطرق وإقامة المراسي على الأنهار واعتبار المسافات.
وكل ذلك من جعل الله تعالى لأن ذلك حاصل بإلهامه.
ويصلح للاهتداء إلى الدّين الحقّ وهو دين التوحيد، لأن في تلك الأشياء دلالة على الخالق المتوحّد بالخلق.
والعلامات: الأمارات التي ألهم الله الناس أن يضعوها أو يتعارفوها لتكون دلالة على المسافات والمسالك المأمونة في البرّ والبحر فتتبعها السابلة.
وجملة {وبالنجم هم يهتدون} معطوفة على جملة {وألقى في الأرض رواسي}، لأنها في معنى: وهداكم بالنجم فأنتم تهتدون به.
وهذه منّة بالاهتداء في الليل لأن السبيل والعلامات إنما تهدي في النهار، وقد يضطرّ السالك إلى السير ليلًا؛ فمواقع النجوم علامات لاهتداء الناس السائرين ليلًا تعرف بها السموات، وأخصّ من يهتدي بها البحّارة لأنهم لا يستطيعون الإرساء في كل ليلة فهم مضطرّون إلى السير ليلًا، وهي هداية عظيمة في وقت ارتباك الطريق على السائر، ولذلك قدم المتعلق في قوله تعالى: {وبالنجم} تقديمًا يفيد الاهتمام، وكذلك بالمسند الفعلي في قوله تعالى: {هم يهتدون}.
وعدل عن الخطاب إلى الغيبة التفاتًا يومىء إلى فريق خاص وهم السيّارة والملاّحون فإن هدايتهم بهذه النجوم لا غير.
والتعريف في النجم تعريف الجنس.
والمقصود منه النجوم التي تعارفها الناس للاهتداء بها مثل القطب.
وتقدم في قوله تعالى: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها} في [سورة الأنعام: 97].
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله تعالى: {هم يهتدون} لمجرّد تقوي الحكم، إذ لا يسمح المقام بقصد القصر وإن تكلّفه في الكشاف.
{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)}.
بعد أن أقيمت الدلائل على انفراد الله بالخلق ابتداء من قوله تعالى: {خلق السماوات والأرض بالحق} [سورة النحل: 3]، وثبتت المنّة وحقّ الشّكر، فرع على ذلك هاتان الجملتان لتكونا كالنتيجتين للأدلّة السابقة إنكارًا على المشركين.
فالاستفهام عن المساواة إنكاري، أي لا يستوي من يخلق بمن لا يخلق.
فالكاف للمماثلة، وهي مورد الإنكار حيث جعلوا الأصنام آلهة شريكة لله تعالى.
ومن مضمون الصّلتين يعرف أي الموصولين أولى بالإلهية فيظهر مورد الإنكار.
وحين كان المراد بمن لا يخلق الأصنام كان إطلاق من الغالبة في العاقل مشاكلة لقوله: {أفمن يخلق}.
وفرع على إنكار التسوية استفهامٌ عن عدم التذكّر في انتفائها.
فالاستفهام في قوله: {أفلا تذكرون} مستعمل في الإنكار على انتفاء التذكر، وذلك يختلف باختلاف المخاطبين، فهو إنكار على إعراض المشركين عن التذكر في ذلك.
جملة {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} عطف على جملة {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون}.
وهي كالتكملة لها لأنها نتيجة لما تضمنّته تلك الأدلّة من الامتنان كما تقدم.
وهي بمنزلة التذييل للامتنان لأن فيها عمومًا يشمل النعم المذكورة وغيرها.
وهذا كلام جامع للتنبيه على وفرة نعم الله تعالى على الناس بحيث لا يستطيع عدّها العادّون، وإذا كانت كذلك فقد حصل التّنبيه إلى كثرتها بمعرفة أصولها وما يحويها من العوالم.
وفي هذا إيماء إلى الاستكثار من الشكر على مجمل النعم، وتعريض بفظاعة كفر من كفروا بهذا المنعم، وتغليظ التهديد لهم.
وتقدم نظيرها في سورة إبراهيم.
وجملة {إن الله لغفور رحيم} استئناف عُقب به تغليظ الكفر والتّهديد عليه تنبيهًا على تمكّنهم من تدارك أمرهم بأن يقلعوا عن الشرك، ويتأهبوا للشكر بما يطيقون، على عادة القرآن من تعقيب الزواجر بالرغائب كيلا يقنط المسرفون.
وقد خولف بين ختام هذه الآية وختام آية سورة إبراهيم، إذ وقع هنالك {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} [سورة إبراهيم: 34]. لأن تلك جاءت في سياق وعيد وتهديدٍ عقب قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمة الله كفرا} [سورة إبراهيم: 28]. فكان المناسب لها تسجيل ظلمهم وكفرهم بنعمة الله.
وأما هذه الآية فقد جاءت خطابًا للفريقين كما كانت النّعم المعدودة عليهم منتفعًا بها كلاهما.
ثم كان من اللطائف أن قوبل الوصفان اللذان في آية سورة إبراهيم {لظلوم كفار} بوصفين هنا {لغفور رحيم} إشارة إلى أن تلك النّعم كانت سببًا لظلم الإنسان وكفره وهي سبب لغفران الله ورحمته.
والأمر في ذلك منوط بعمل الإنسان. اهـ.